+55 21 965542222 +971 54 4460442
الهوية اللغوية، رافعة الفكر وبوابة التغيير

الهوية اللغوية، رافعة الفكر وبوابة التغيير

في عالم تُقاس فيه الأمم بقدرتها على إنتاج المعرفة وتوطينها، تظهر اللغة كأداة سيادية لا تقل شأناً عن الاقتصاد والسياسة. فاللغة الوطنية ليست مجرد وسيلة تواصل، بل حاضنة للهوية، ووعاء للمعرفة، وسلاح في معركة التقدّم والتحديث، فكلما ابتعدت الدول عن لغتها الأم ازدادت جهلاً وتخلفاً عن الركب الحضاري.

من اللافت أن أعظم الدول والحضارات تطوراً وتقدماً في مجالات التكنولوجيا والعلوم الحديثة تعتمد لغاتها القومية في التعليم، وخاصة في مراحل التعليم الجامعي والتخصصي والبحثي.

ففي اليابان، تدرّس 94% من الجامعات برامجها بالكامل باللغة اليابانية، بما في ذلك كليات الهندسة، الطب، والعلوم الطبيعية. ورغم أن اليابان دولة رائدة في الصناعات الإلكترونية والروبوتات والذكاء الاصطناعي، فإنها لم ترَ أي ضرورة لاعتماد الإنجليزية لغةً للتعليم.

وفي الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، تُدرَّس معظم التخصصات العلمية والتقنية باللغة الصينية (الماندارين)، وقد أعلنت وزارة التعليم الصينية عام 2022 أن أكثر من 93% من المقررات الجامعية تُقدَّم باللغة الصينية، مع فرض معايير لغوية صارمة حتى على الطلاب الأجانب الراغبين في الدراسة هناك.

وفي روسيا، تُشكّل اللغة الروسية ركيزة أساسية في العملية التعليمية، بما في ذلك في مجالات التكنولوجيا والبرمجة، وعلى عكس معظم دول العالم التي تعتمد اللغة الإنجليزية كلغة رئيسية في البرمجة وتطوير البرمجيات، قامت روسيا بتطوير لغات برمجة محلية مثل لغة (1С)، والتي تُستخدم على نطاق واسع في نظم إدارة الأعمال والمالية داخل البلاد، ووفق تقرير صادر عن شركة Statista عام 2024، فإن أكثر من 88% من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في روسيا تعتمد تطبيقات مبنية على أنظمة مبرمجة باللغة الروسية، ما يسهم في توسيع رقعة الاستخدام المحلي وتعزيز الأمن الرقمي والاعتماد الذاتي في قطاع يُعدّ من بين أسرع القطاعات نمواً في العالم، إذ يشهد سوق البرمجيات العالمي نمواً سنوياً بنسبة تتجاوز 11%.

أما في أوروبا، وعلى الرغم من القرب الثقافي واللغوي من الإنجليزية، فإن معظم الدول تُدرّس بلغاتها القومية. ففي فرنسا، مثلاً، تُدرَّس جميع التخصصات الجامعية باللغة الفرنسية، ويُلزَم الطلاب الأجانب بإتقان الفرنسية قبل القبول. وكذلك الحال في ألمانيا، حيث تُقدَّم أكثر من 85% من برامج البكالوريوس باللغة الألمانية، ولا يُسمح للطلاب الدوليين بالالتحاق بالجامعات دون إثبات كفاءة لغوية عالية.

في مقابل هذا التوجه العالمي، مبعث الحفيظة أن معظم الدول العربية تعاني، خاصة في مجالات التعليم العالي، تعاني من غربة وانسلاخ لغوي تكاد تُفقدها بوصلتها العلمية والهُوِيَّاتية. فليس هناك جامعة عربية واحدة معترف بها دولياً تُدرّس العلوم الطبيعية أو الطب أو الهندسة بالعربية. بل إن بعض الجامعات تذهب أبعد من ذلك، وتمنع استخدام العربية في المحاضرات أو المشاريع البحثية، رغم أن اللغة الرسمية للدولة عربية!، والأخطر من ذلك أن الاعتماد على لغات أجنبية للتدريس، دون إتقان حقيقي لها، لا يخلق علماء مزدوجي اللغة بل يُنتج أشباه متعلمين يعانون من ضعف في فهم المصطلحات، وسطحية في تحليل المفاهيم، كما أثبتت دراسات متعددة، ويُحتم علينا أن نُدرك أن اللغة ركيزة الهوية، وأساس الانتماء.

وتجدر الإشارة إلى أن بعض الدول العربية مثل سوريا، رغم التحديات الاقتصادية وضعف الاستثمار في البحث العلمي، تُعد من النماذج الإيجابية في اعتماد اللغة العربية في تدريس العلوم في مختلف المراحل التعليمية، بما في ذلك التعليم الجامعي، وقد أظهرت التجربة السورية أن استخدام المصطلحات العلمية باللغة العربية يسهم في تسهيل الفهم والاستيعاب لدى الطلاب، إذ إن المصطلحات والأسماء المعرّبة غالباً ما تكون أكثر دقة ووضوحاً، وتعكس المعنى مباشرة دون الحاجة إلى العودة لمراجع أجنبية أو شروحات مساندة. بالمقابل، تُظهر العديد من الدراسات التربوية أن الاعتماد على لغات أجنبية في التعليم دون إتقان كافٍ لها يؤدي إلى ضعف في التحصيل العلمي وسطحية في الفهم، خاصة في المواد المفاهيمية كالفيزياء والرياضيات والكيمياء.

المحصلة تراجع التصنيف الأكاديمي والمعرفي للجامعات العربية عن قوائم أفضل 200 جامعة عالمية، حيث تسجّل منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أدنى معدلات إنتاج الأبحاث العلمية لكل مليون نسمة بمعدل أقل من 140 بحث لكل مليون نسمة، بينما المعدل العالمي الوسطي 1,500 بحث لكل مليون نسمة.

ليست اللغة الإنجليزية في جوهرها لغة العلم، ولم تكن كذلك عبر التاريخ، بل إن لغة العلم الحقيقية هي اللغة التي تُفهم وتُتقن من قبل المتعلم، ولا يعني ذلك الانتقاص من أهمية تعلم اللغات الأجنبية، فإتقان اللغة الإنجليزية، على وجه الخصوص، أصبح ضرورة معرفية، نظراً لكون أكثر من 80% من الأبحاث العلمية والدراسات الأكاديمية والمقالات البحثية العالمية تُنشر بها. لكن التجارب الدولية أثبتت أن التعليم باللغة الأم هو الطريق الأنجع لترسيخ الفهم العميق، وتحفيز الإبداع، وتوطين المعرفة بشكل فعّال. فالعقل لا يُنتج إلا بما يُتقنه، ولا يمكن أن يُطلب من الطالب الإبداع في مجالات دقيقة كالطب والفيزياء بلغة لم يتقنها بعد. من هنا، ينبغي أن يكون التعليم باللغة الوطنية الأساس، على أن يُدعَم بتعليم اللغات الأجنبية لتوسيع آفاق المعرفة، وتيسير الوصول إلى الإنتاج العلمي العالمي، وتتحمل وزارات التعليم والثقافة مسؤولية كبيرة في هذا السياق، من خلال تعزيز جهود الترجمة والتعريب للأبحاث والمصادر العلمية الحديثة، وجعلها في متناول الطلاب والباحثين بلغاتهم الأم.

فهل آن الأوان لأن نستعيد لغتنا، لا كشعار، بل كأداة علمية فاعلة؟ وهل نملك الإرادة السياسية والأكاديمية والشعبية لتوطين العلم بلغتنا كما فعلت الأمم التي سبقتنا لإثراء الناتج المعرفي؟ فمن يستورد المعرفة بلغة مستعارة، لن يُنتج فكراً ولا يبنى حضارة.

فاللغة ليست أداة تواصل فحسب، بل جِدار السيادة، وسياج الهوية، ومفتاح للولاء والانتماء. إذا فرّطنا فيها، فرّطنا في كل ما تمثّله، وإذا حافظنا عليها، أبقينا جذورنا ضاربة في الأرض، مهما هبّت علينا رياح التغريب، فاللغة حاضنة للقيم، والمفاهيم، والمرجعيات، فإن ارجعيات، فإن استبدلناها، فقد استبدلنا معها وعينا، وتاريخنا، وانتماءنا.

بقلم سام تاج الدين

© 1995- 2025 Sam Travel & Events

Translate »
Verified by MonsterInsights