أوربة! حلم الهجرة المُكلف
ثلاثة عشرة سنة عجاف مضت وكرامة وأجساد وممتلكات الشعب السوري تنهب وتنتهك وتباع ويسكنها الجوع والفقر والتهميش والدونية والتميز من كل من هبّ ودبّ ومع هذا كُلّه لا نرى أيَّ حِراك أو قراراتٍ فعلية وعملية تتخذ من قبل المجتمع الدولي سوى كعادتهم بالإدانات والقلق التي لا تساوي قيمتها الحبر الذي عليها، ولا تتخذ أي جهة سواء كانت تقف مع أو ضد الثورة أي خطوات لإيقاف الدكتاتورية والتدخل الأجنبي لنهب ثروات الأراضي السورية بغض النظر عن الفاتورة المدفوعة من أرواح وممتلكات السوريين وتهجيرهم، ويضاف لها التغيير في التركيبية السكانية والدينيةالمجتمعية الممنهجة، وهذا يشمل النظام والمعارضة وعناصر التدخل الأجنبي على مختلف أطرافها التي لاهمُّ لها سوى سرقة الثروات وشراء الأراضي وتغير الديمغرافية والدينية لسوريا لصالحها، ولغياب الدولة التي باتت أضعف حتى من أن تجد كرسي مستمع في مؤتمرات يُقرّر فيها بالنيابة عن السوريين.
الأسوأ هو أن تستجير بالرمضاء بالنار، فمعظم السوريين المُهجرين ولّو وُجوههم شطرَ أوربة ظانين أنها الخلاص من الموت والشتات، فحزموا الحقائب ومعها بعضٌ من أمل وحلم الحياة الكريمة وحقوق الإنسان وآثروها على بلاد المسلمين الأخرى لكن لم يعلموا أن هذه القوانين والرؤى للمجتمع الأوربي قد تتغير تبعاً للظروف ما دامت السفن لا تجري حسب أهوائهم وأصبحوا يُعاملون بدونية وعنصرية متناسين قوانينهم كونها لا تصبُّ في مصلحتهم حالياً، وإن كانت هذه الهجرة مهما بلغت لا تشكل سوى جزء بسيط جداً من فاتورة قديمة مؤجلة من احتلالهم ونهبهم لثروات العالم العربي.
بعد تقدم مدّ الأحزاب اليمينية والراديكالية وقدراتها الحالية والمستقبلية المتنامية على إدارة دفّة السياسيات في أوربة وغيرها من بقاع العالم التي لا تؤمن بالمساواة والتعددية الثقافية، وبعض الأحزاب اليمينة تذهب لخلق “رهاب الأجانب” وخاصة المسلمين بذريعة الأمن القومي، وبات من الممكن أن تتغير القوانين الخاصة باللاجئين ونمط الحريات المتبع وإن تعارضت مع ميثاق حقوق الأنسان العالمي.
تنامي هذا القطاع السياسي ما هو إلا انعكاس للتوجه الحقيقي الكامن للشخصية الفردية الغربية التي تدعم هذا التوجه حيث بات الوضع الآن لا يخدم أهدافهم، وبمنظور آخر ينمي الفكر والتوجه العنصري العام الذي هو جزء من الشخصية الفردية لكن لم يكن مُفعّل لعدم وجود تهديد مباشر سابقاً لنمط الحياة الخاص بهم، وحالياً بات “الاستيعاب” بدل “التكامل”، حيث أن التكامل هو أن تتكامل الثقافتان دون فقدان ثقافة البلد الحالي وتسهم في الثقافة ككل، بينما يذهب الاستيعاب لتبني الثقافة المهاجرة لثقافة البلد لا أن تساهم فيها. ويتجلى هذا المبدئ المتبع من خلال فرض قسري لتعلم الثقافة والتاريخ والعادات واللغة الأوربية، وبالتالي محو للشخصية الأساسية للمهاجر، وهو نفس الأمر الذي كان متبع من قبل نفس الدول عندما كانت مستعمرة لأراضينا العربية.
لكن خطورة هذه الهجرة تتعاظم لما تشكله من خطر على المسلمين كونها تعتبر منعطف خطر في تاريخ الأمة الإسلامية الحديث، وهذا يرجعنا لمسلمي القرن الثامن الذين أجبروا على اعتناق النصرانية مكرهين وتركزوا في المجر وأوربة الغربية وإسبانيا وكانوا يشكلون السواد الأعظم، وجلَّ ما نخشاه أن يعيد التاريخ نفسه وتساومهم بلاد المهجر ليرتدوا بذريعة حقوق الإنسان وحرية المعتقد وغسيل الأدمغة للأطفال في مدارسهم للتنصل من مبدأ الأسرة والدين واحترام الأبوين، وهذا ينطبق على المسلمين والنصارى سواء، حيث أن الانفتاح يشمل التنصل من كافة المبادئ والقيم الأساسية الدينية أياً كانت وللأسف القوانين هناك لا تراعي الدين أو القيم الأسرية وقيمة احترام واتباع الأكبر سنً، ولعلَ الإسبان من أكبر الأمثلة حيث كانوا من الموحدين وآتى عليهم وقت كفروا بربهم واتبعوا القوانين المدنية والحريات الوهمية المتفلتة.
ناسف عندما نرى وسائل التواصل الاجتماعي تُجلّي هذا حيث نرى مثلاً تداول صور للمستشارة الألمانية “ميركل” وتحتها كلما مثل “الأم الرحيمة” و ” نحبك” وهم معذورون بهذا لأنهم قد استشعروا الأمن والحياة المستقرة من قبل هذه الدول، ولكن لم يدركوا بعد قيمة ما سيدفعونه مستقبلاً من قيمهم ودينهم وأولادهم.
يجب على الأمة التكاتف وفتح باب الأمل مرفق بخطوات عملية على الأرض لأخوتنا الذين باتوا يتلقفهم تجار الموت ويرميهم اليمُّ جثثاً هامدة، ومن وصلَ يعيش في ذلٍّ ودونية في المجتمع وتضيع سنوات من حياتهم على أمل قد يكون زائف ولا يجنون منه أكثر ما أخذو.